بساط الريح الذي رحلت عليه جدتي..

صيف سنة ٩٨…

الساعة تشير إلى الرابعة عصرا، أجلس أنا وأخواتي الثلاث بشكل دائري في منتصف الحجرة، نقوم بحل الواجبات المدرسية كعادتنا كل يوم.

كنت ممسكة بالقلم وارسم خطوطا عشوائية هربًا من حل الواجبات المكدسة علي، وبين حين وآخر استرق النظر إلى أخواتي الاخريات، أراهن في انهماك شديد وتركيز عال علي واجباتهن، كنت في داخلي أتساءل من أين لهن كل هذا الجد؟ لماذا أنا لا أكون مثلهن… كانت تساؤلاتي لا تنتهي داخلي… ثم عدت إلى رسم خطوطي المتعرجة دون أنا أعلم حينها أن حياتي ستشبه خطوطي علي نحو كبير.!

كان صوت جدتي لأبي يصلنا عبر النافذة الكبيرة في زاوية الحجرة، كانت لديها عادة جدتي كل عصر تجلس في فناء الدار تحتسي قهوتها وتصدح بأعلى صوتا من قصائد بالكاد كنا نفهم اليسير منها، نفهم فقط القصائد التي تنظمها هجاء مرةً في أمي ومرةً في أحدانا! ثم فجأة دوت صرخة عالية جدا من جدتي! أجفلتنا جميعا! رفعنا رؤوسنا في وجل اتجهت اركض نحو النافذة لا أرى ماذا يجري في فناء الدار، رأيت أخي الأكبر يقف بقامته الطويلة يحجب عني وجه جدتي، كان يردد عدة كلمات لم أسمع منها إلا- أدعي لها بالرحمة- نحيب جدتي كان مخيفا ممزوجا بكلمات غريبة- يا حظها أخذها الموت-!- راحت عند ربها- ماذا تقول جدتي؟! تساءلت هذه العبارات كانت جديدة علي لأول مرة اسمعها! ماذا تعني جدتي ب الموت!

ولماذا تحسدها عليه! هل كان هذا الموت جائزة فخرية؟ تساءلت؟ كيف راحت إلى ربها؟ استمرت جدتي بالعويل مشى أخي مبتعدا عنها حينها رأيت وجهه كان ذابلا، و غمامة سوداء تحت عينيه، كان يمشي منكسرا حتى غاب عن عيني. دخلت أختي الكبرى علينا في الحجرة وهي تبكي بحرقة إلى درجة أن وجهها الذي لطالما رأيته جميلا اختفى! جدتي لأمي ماتت، ماتت، ماتت انفجرن أخواتي في البكاء فجأة مثل بالون مملوء بالمياه! بينما كنت مشغولة بفكرة- الموت- مشغولة بهذه الجائزة التي فازت بها جدتي لأمي! وذهابها إلى ربها! كان عقلي مشوش وقلبي يخفق بشدة دون بكاء، التفت إلى أختي التي تكبرني بسنتين كانت قد انهارت تماما، بينما أختي التي تصغرني كانت تبكي بصمت، دموعها تنساب وكأنها لا تريد أن تكون مصدر إزعاج لأحد! لطالما كانت أختي هذه تتمتع برباطة جأش قوية حتى بعدما كبرنا..!

بعدها هدأنا قليلاً.. ثم بدت أختي الكبرى تقص علينا ماحدث: لقد توفيت جدتي على سجادتها وقت صلاة الفجر إثر أزمة قلبية! لأول مرة أعرف أن جدتي الحبيبة تعاني من مرض القلب..

اخذها مرض القلب منا بينما هي تعيش في قلب كل واحدةً منا..

انتظرنا عودة أمي بفارغ الصبر! وعندما عادت مع أبي لم تكن أمي التي أعرفها المرأة القوية المتماسكة، بدت لي أقصر مما كانت عليه! منطوية على نفسها وكأنها تخشى حزنها الذي في صدرها ينتثر علينا جميعًا! دخلت إلى غرفتها دون أن تنبس بكلمة وكذلك أبي، لكن أبي هذه عادته قليل الكلام، شديد الحيطة..

لم أنم تلك الليلة كان وجه جدتي يلاحقني كل ما اغمضت عيني، وجهها الذي لم أراه قط! كانت دائمًا ترتدي (البرقع) لكن كانت لها عينان تفيضان بالحب والحنان، عينان لن أنساهما طوال عمري.. كنا نذهب إليها في الصحراء حيث خيمتها وأغنامها التي تراعها، لم تحب جدتي المدينة إطلاقًا لطالما كنت تقدس حريتها، البيئة التي نشأت فيها، في كل مرة كنا نزورها تحضر لنا أشهى خبز على رماد النار، كان لذيذ على نحو تذوب معهُ كل حواسِنا! وعندما نهم بالأكل كانت تقف فوق رؤوسنا تهش عن الذباب حنانًا منها لكي نهنئ بخبزها اللذيذ. كانت أغلب الوقت هادئة، منصتة، كنت أشعر أن في عيناها الكثير من الشقاء، الهم، الوحدة، لكنها كانت قوية في إخفاء اوجاعها لم أكن أعرف انها مريضة! آلمني جدًا رحيلها عنا مبكرًا، لم تكبر ونكبر معها، اختطفها الموت منا سريعًا وعلى عجل! لم أملك معها الكثير من القصص والضحكات والأحضان، لم أكتفي من جدتي أبدًا.. رحلت مبكرًا مودعة الحياة على سجادتها التي اسميها (بساط الريح) الذي ذهبت عليه إلى الجنة.